المكان: مركز المتابعة – عمّان
الزمان : 30 حزيران 1990 – ظهرا
الأحداث: ـ
حرّك قدمه اليمنى للأمام و للخلف تارة و قدمه اليسرى تارة أخرى في محاولة بائسة لكسر جمود الوقوف الذي طال إنتظاره بين صفوف المراجعين. أطل برأسه جانبا ليتفقد دوره في فضول؛ فيتنهد و يعود معتدلا في وقفته : ـ"هانت! كلهم 12 واحد قدامي" ـ
يباغته صوت قوي فجأة من الخلف فيلتفت ليرى ضابطا على بعد سته أشخاص منه و قد أقفل الباب الرئيسي للمكتب موجها العدد المتبقي من المراجعين المنتظرين قائلا: "خلص إكتفينا اليوم". يا له من محظوظ! فلو أنه تأخر بضع دقائق في المجيء هذا الصباح لما كان من المحظيين المتبقين و ما كان ليتسنى له أخذ رقم يخوله لمواصلة سفره للضفة الغربية عن طريق جسر الملك حسين : "لكان راحت عليه لبعد العيد!". ـ
إنها فترة الصيف و موسم الإجازات و الترحال كحال كل المغتربين .. لكن ليس له أو لزوجته و أطفاله وجهة غير الأردن و فلسطين اللتان إعتاد السفر إليهما.ـ
إنها فترة الصيف و موسم الإجازات و الترحال كحال كل المغتربين .. لكن ليس له أو لزوجته و أطفاله وجهة غير الأردن و فلسطين اللتان إعتاد السفر إليهما.ـ
وصل دوره ليقف أمام الضابط الأردني المسؤول و الذي بعد تفحص دقيق لأوراقه يتناول بيساره إحدى البطاقات البيضاء و تهوي عليها بيمناه بالختم الرسمي الخاص ليدون:ـ
رقم الدور : 45
تاريخ اليوم: 30 حزيران 1990
المكان: موقف سيارات العبدلي – عمّان
الزمان : 6 تموز 1990 – الساعة 6 صباحا
الأحداث: ـ
ركب الجميع في السيارة المتوجهة إلى جسر الملك حسين في غور الأردن؛ و قد حمّلوا سقف السيارة أمتعتهم و تأبطوا أطفالهم و أوراق سفرهم الذي تجاوز عددها أي أوراق قد يحتاجها مسافر في هذا العالم. فجاوز السفر لا يكفي للعبور بل يجب أن يتعدى إلى "بطاقة متابعة الجسور" , " الهوية الإسرائيلية" بالإضافة إلى "تصريح المرور الإسرائيلي"!ـ
إحتضنتهم جبال عمان الشاهقة لتستقبلهم الجبال المنسابة المؤدية لوادي غور الأردن و تتركهم على أعتاب جسر الملك حسين الذي ضج بالمسافرين و أمتعتهم منذ ساعات الصباح الأولى.ـ
ما أن تطأ أقدام العائلة الأرض حتى يسارع الأب إلى مركز الجسر ليقف في صف جديد ليقدم جواز و وثائق سفره هو و إمرأته التي تركها مع أطفالهما و الحقائب في محاولة جادة لإيجاد بقعة صغيرة يقفون عليها لتقيهم قيظ الشمس الحارق وسط المكان الذي إفترشه الناس بين المقاعد الإسمنتية الزرقاء و الأرض التي إستحال لونها سواد من أكوام الذباب.ـ
حرارة الجو لا تحتمل و كذا الرائحة التي كانت تملئ المكان و تزكم الأنوف. مرت ساعة أو أكثر قبل أن يعود الأب بما هو أكثر ثقلا من الحرارة و الرائحة مجتمعة. "راح علينا الدور! و كان علي أخذ رقم جديد .. 150 !!" لينزل الرقم كالصاعقة على زوجته و تترجم كبرى أطفالها ملامح وجه أمها و ما يعنيه ذلك من ساعات طوال حارة عليهم إنتظارها حتى يتسنى لهم مغادرة المكان و التوجه إلى الجسر الإسرائيلي مرورا بنهر الأردن.ـ
مرت الوقت كالدهر علبهم.. يتخللها أصوات بكاء و عويل الأطفال و محاولات الأم المنهكة إبقاءهم تحت ناظريها بين أكوام اللحم البشرية المترامية على الأرض الإسمنتية الحارقة. كان صوت المكبر يدوي طارخا بأرقام المنتظرين واحدا تلو الأخر. و ما أن يُسمع رقمٌ حتى يسارع أحد الموجودين بالفرار من مكانه حاملا أمتعته كمن فاز بالرقم الرابح! ـ
ـ"رقم 150"!!! يعلو الصوت مدويا من السماعة لتضيء وجوه الأطفال التي علتها ملامح تعبة كأنه العيد. ليحملوا حقائبهم في عجل و يتوجهوا إلى الحافلة. ـ
المكان: الحدود الأردنية الإسرائيلية – الجانب الأردني
الزمان : 6 تموز 1990 – الساعة 12:30 ظهرا
الأحداث: ـ
ًتتحرك الحافلة المعبأة بالرجال و النساء و الولدان ببطأ في درجة حرارة تزيد عن الأربعين درجة مئوية في الخارج و تضاهيها حرارة داخل الحافلة التي ضُغطت كأنما سحب منها الهواء و قارب من بداخلها درجة الإستواء لتتعالى أصوات الأطفال باكيا تستنجد الرحمة من هذا السعير .. لكن لا من مجيب.ـ
تتوقف الحافلة لدقائق ثم تتابع المسير لتتوقف مرات متعددة في إنتظار الدور للمرور إلى الجانب الإسرائيلي. ـ
و أخيرا حان الدور؛ و لكن ما أن تتخطى الحافلة الحدود حتى تتوقف من جديد و يدخلها مجند إسرائيلي مدجج بالسلاح آمرا جميع الذكور بالترجل من الحافلة مع إبقاء النسوة و الأطفال داخلها لحين تفتيش الحافلة و تفحص هويات الجميع. ـ
ما أن ينتهي الجنود حتى يأمروا الجميع بالعودة إلى الحافلة التي يمنع فيها جلوس الرجال في المقدمة و تنطلق احافلة على درب المعاناة من جديد.
دقائق طويلة تمر قبل ان يصلوا لمركز الجسر الإسرائيلي "داميان" لتبدأ مرحلة تفتيش جديدة موسعة.ـ
دقائق طويلة تمر قبل ان يصلوا لمركز الجسر الإسرائيلي "داميان" لتبدأ مرحلة تفتيش جديدة موسعة.ـ
يتبع ....